مجتمع

المراسل الحربي: الهروب نحو الموت لنقل الحقيقة

شهد عام 2023 مقتل قرابة 99 مراسلاً صحفياً، وعاملاً في المجال الإعلامي أثناء الحروب، 75% منهم قتلتهم إسرائيل في حربها الأخيرة ضد قطاع غزة.

future آلان وود المراسل العسكري لصحيفة ديلي إكسبريس البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية

لا شيء يبقى ثابتاً في الحروب، البشر لا يحتفظون بإنسانيتهم، فبعضهم تُنزع منه تحت تهديد السلاح فيعيش في العراء ويأكل من أوراق الشجر، والبعض الآخر يبيع إنسانيته بمجرد أن يصير اسمه جندياً يحمل السلاح فيُطلق سراح الوحوش من داخله. حتى الأرض تتغير ملامحها، فتُباد القرى وتضيع العلامات ويتصاعد الركام حتى يصبح هو المدينة الجديدة. لكن في وسط هذا الموج من التغيّر يبقى شيء واحد ثابت أو على الأقل يكون هو آخر ما يتغيّر، هو المراسل الحربي.

تحيط المخاطر بالمراسل الحربي من كل الجبهات. فتصبح الصحافة مهنة الموت بدلاً من أن تكون مهنة المتاعب فحسب. وقد يصبح الصحفي في لحظة خاطفة هو متن الخبر. لكن حتى في تلك اللحظة سيكون هناك مراسل حربي آخر ينقل نعي زميله، ويلتقط منه مشعل الرسالة ليستمر في أدائها. واضعاً الكاميرا حول رقبته، وروحه على كفّه، ليستمر تدفق الحقيقة للعالم.

المراسل الأول

كان أول مراسل حربي عرفه العالم هو وليم هوارد راسل. كان البريطاني يشارك في تغطية حرب القرم التي جرت عام 1854، كان يغطيّها لصالح جريدة التايمز، ثم أرسلته الجريدة لتغطية الانتفاضة في الهند عام 1957. واستمرت حياته مراسلاً حربياً مع ازدهار تلك المهمة، وإعجاب الصحف بوجود شخص في أرض المعركة ينقل لهم أخبارها أولاً بأول، فغطّى أحداث الحرب بين النمسا وبروسيا.

أمّا أبرز المراسلين الحربيين فكان ريتشارد هاردنج ديفيز، وقد أسهم في تغطية قرابة 6 حروب كبرى. وجدير بالذكر هنا أن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قد عمل في بداية حياته مراسلاً حربياً أيضاً. ومع ظهور الكاميرا وسهولة التصوير بها بدأت تزدهر مهنة المُصّور الحربي بجانب المراسل، وكان من أوائل الذين عملوا مصوراً صحفياً في الحروب هو «روجر فينتون».

من المراسل إلى المرافق

بروز تلك الأسماء في المجتمع الغربي يرجع إلى إيمان حكومات تلك الدول بأهمية المراسل الحربي، وبضرورة الجانب الإعلامي في تغطية الحروب. فمثلاً عندما قرر جورج بوش الابن غزو العراق كان من ضمن القوات التي أرسلها الصحفيون إذ رافق قوات التحالف أكثر من 775 صحفياً ومراسلاً. ووصفت حرب العراق بأنها أكثر الحروب تغطيةً إعلامية في تاريخ الحروب كلها. وكان الأمريكيون حريصين على أن تكون تغطيتها شبه آنية، أي إن الحرب باتت تُنقل على الهواء مباشرة. كانت تلك النقطة هي استجابة أمريكية للضغوط من قبل وسائل الإعلام الأمريكية التي اشتكت من غياب المعلومات عنها في حرب الخليج الثانية وحرب أفغانستان.

لكن وجود المراسل الحربي برفقة جنود طرف معين لا يدل على أي معنى للحرية في التغطية. فبالتأكيد سينقل الصحفي وجهة النظر التي يقف بجوارها. إلى الحد الذي أدى لولادة مصطلح جديد يُدعى «الصحفي المُرافق»، وهو الصحفي الذي يتحرك مع الجنود خطوة بخطوة لدرجة أنه قد يوجد معهم داخل الدبابة. لتعود بذلك للمراسل الحربي فرادته وأهميته. فلم يعد كل من يوجد في أرض المعركة مراسلاً حربياً، بل بات معروفاً أن الصحفي المرافق للجنود ينقل وجهة نظرهم ونظرة الدولة التي كلفّته، أمّا المراسل الحربي فيمتلك قدراً أكبر من المصداقية تجعل تقاريره موضع ثقة أكثر من تقارير الصحفي المرافق.

حماية مراسلي الحرب

بزوغ المصطلحات وازدهار المهنة لا بد أن يرافقه ظهور عديد من القوانين التي تُحدد آلية عمل المراسل الحربي، وأهم منها القوانين التي تحدد كيفية التعامل معه، وتضمن له سلامته وأمنه في تلك المناطق المشتعلة. أما عن القوانين المنظمة لعمله فتختلف حسب الدولة التي يوجد فيها المراسل، ومدى سماحها له بالتغطية. ففي حرب العراق كان الجنود يملكون حرية كبيرة، لكنهم في النهاية كانوا مقيدين بأماكن وجود القوات الأمريكية.

 أمّا في الحرب الروسية-الأوكرانية، فقد قامت أوكرانيا بالتضييق على المراسلين الحربين، وقسّمت الدولة إلى ثلاث مناطق، مناطق خضراء يمكن للصحفيين ممارسة عملهم فيها بحرية، ومناطق صفراء يجب وجود ضابط مع المراسل، ومناطق حمراء يُحظر دخول المراسل إليها. وغالباً ما تكون المناطق الحمراء هي المناطق المهمة، أمّا المناطق الصفراء والخضراء فقد وجدها المراسلون بعيدة تماماً عن الأحداث الحقيقية.

وقد وقّع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قوانين للتحكم أكثر في وسائل الإعلام، مما أثار استهجان مجتمع الصحفيين، لأنها أبعدت الصحافة تماماً عن الخطوط الأمامية. هذا الإبعاد لم يكن هدفه حماية الصحفيين، بقدر ما كان يهدُف إلى منع وصول ما يحدث للرأي العام العالمي. فحماية المراسل الحربي قد تكفلّت به عدة قوانين. لكن المفاجئ أن اتفاقية جنيف الأولى الموقعة عام 1864، التي تتحدث عن تحسين حال جرحى الحروب، لم تتطرق للمراسلين الحربين، واكتفت بالحديث عن جنود الطرفين فحسب.

القوانين الجدّية جاءت عام 1907، في المذكرة المُلحقة بقوانين وأعراف الحرب لاتفاقية لاهاي الرابعة؛ حيث نصّت المادة 13 منها على أن يُعامل الأفراد الذين يرافقون الجيش دون أن يكونوا في الواقع جزءاً منه، كالمراسلين الصحفيين ومتعهدي التموين الذين يقعون في قبضة العدو، كأسرى حرب، شريطة أن يكون لديهم تصريح من السلطة العسكرية للجيش الذي يرافقونه. ثم أتت اتفاقية جنيف الموقعة عام 1929، التي تحدثت عن أسرى الحرب، ونصّت في مادتها رقم 81 على نفس الجملة السابقة.

على الرغم من أن اعتبارهم أسرى حرب قد يبدو مجحفاً، لأنهم لم يكون جنوداً يحملون السلاح من الأساس. لكن تلك الجملة تعتبر طوق نجاة للمراسلين أنفسهم، لأنه في عديد من الحالات كانت تتم معاملتهم باعتبارهم جواسيس للعدو. لكن مع ظهور مهنة المراسل المستقل، الذي لا يحمل تصريحاً من جيش أي طرف، ولا يرافق أحد الجيوش، باتت تلك الفقرات بحاجة إلى تعديلات. فأتى نص المادة 79 من بروتوكول الأمم المتحدة الصادر عام 1977، الذي أُلحق بمعاهدات جنيف، ليقول إن الصحفيين والمراسلين المستقلين يجب أن يُعاملوا معاملة المدنيين. مما يعني تجريم استهدافهم من أي طرف.

جرائم الحرب

تثبت الأيام أن كل تلك القوانين، والنصوص القانونية، لا تعدو كونها حبراً على ورق، وأكواماً من التصريحات، تنطلق بحسب السياق والرغبة الدولية. فيمكن إدانة مقتل مراسل حربي، وتوجيه تهمة ارتكاب جريمة حرب للجيش الذي قتله، إذا ما كان الجيش القاتل مغضوباً عليه دولياً أو هناك تربص لعُذر دولي من أجل قتاله.

أمّا في عديد من الحالات فغالباً ما تمضي تلك الجريمة من دون أي تحرك رسمي، ومن دون حتى توجيه اتهام حقيقي للقاتل، بل تكتفي المنظمات الدولية بطلب فتح تحقيق عاجل لمعرفة المُلابسات، التي تكون غالباً معروفة بالفعل، لكن يطالب وزراء الخارجية والهيئات الأممية بتحقيق مستقل، لا ينتهي غالباً لشيء، وإذا توصل لنتيجة تكون بعد شهور طويلة. وتكون تلك الشهور كفيلة بموت الحقيقة، وضياع الزخم حول القاتل.

فقد شهد عام 2023 مقتل قرابة 99 مراسلاً صحفياً، وعاملاً في المجال الإعلامي أثناء الحروب، 75% منهم قتلتهم إسرائيل في حربها الأخيرة ضد قطاع غزة، في الشهور ما بين أكتوبر وديسمبر، دون إحصاء هؤلاء الذين قتلتهم منذ بداية عام 2024. وبينما قُتل في حرب غزة 72 صحفياً، فقد قُتل الـ22 الباقيين في باقي النزاعات في 18 دولة حول العالم، مثل الفلبين والمكسيك والصومال.

وقد أودت الحرب في أوكرانيا، على مدار عامين، بقرابة 15 حالة وفاة لصحفيين في الميدان، لم تكن في غالبها استهدافاً مُتعمداً من القوات المتحاربة، لكن نظراً لتفاجؤ الصحفيين الأوروبيين بأن نزاعاً نشأ وعلى معظمهم أن يغطيه، فقد نسيّ الأوروبيون غالباً كيف تُغطى النزاعات، خصوصاً إذا كانت في بلادهم.

قواعد اختيار المراسل الحربي

لذلك، فإن اختيار المراسل الحربي يخضع لعدة قواعد قبل أن تختار القناة أو الجريدة اسم الصحفي الذي سترسله لمنطقة النزاع. أولها أن يكون لائقاً بدنياً، ويستطيع الجري بسرعة، وعلى دراية بالإسعافات الأولية. كذلك يُفضل أن يكون قد أدى الخدمة العسكرية كي يكون مُلماً بقواعد الجيوش، وكيفية التعامل مع الرُتب المختلفة. والأهم من كل ذلك أن يكون معتاداً على رؤية المشاهد الدموية، ويملك ثباتاً انفعالياً كبيراً أمام فظائع الحروب. كما يجب أن يحفظ الجغرافيا التي يوجد فيها، كي يعرف أماكن الهروب والاختباء. وأن يحمل بطاقة تعريف مكتوب فيها بياناته، وأهم معلومة يجب أن تُوجد هي فصيلة الدم. ويجب أن تكون كلمة صحافة مكتوبة بوضوح على ملابسه كي تحميه من الاستهداف المُتعمد.

لكن لا تبدو كل تلك الاحتياطات كافية في كثير من الأحيان، لأن الصحافة في بعض الحروب تكون هي العدو الذي يجب قنصه، فتصبح ملابس الحماية هي عامل الجذب للرصاص، وتصبح شارات التعريف هي أداة الاتهام. تنفذ الجيوش الحديثة وصية قديمة لكن بتكنولوجيا عصرية. وصية الجيوش الرومانية القديمة أثناء قمعها لأي تمرد ضدها، فلم يكونوا يقتلون المتمردين فحسب، بل يجب أن يدمروا كل حجر يحمل أسماءهم، أن يُفتتوا كل جدار معبد يحمل ذكراهم، وأن يحرقوا مدينتهم التي احتوت التمرد، يحوِّلونها لرماد، ثم ينثرون الرماد في البحر والجو. كل من يُردد أسماء المتمردين أو الثوار يُقطع لسانه، كل من يروي قصتهم يجب أن تُفقأ عينه، يجب أن تُمحى قصتهم، ليتعلموا أن من يحارب القوى الكبرى لا يُهزم فحسب، بل يُمحى ذكره من التاريخ للأبد.

إذن فالعدو قد يخشى سلاح عدوه، لكن الذاكرة ترعبه أكثر. فتراكم ذكريات التمرد وتناقل قصص الفظائع يخلقان رماداً كثيفاً ما يلبث أن يشتعل مع أول شرارة، ومع أبسط حدث. لهذا حرص كل احتلال على محو ذاكرة من يحتلهم، والتحكم في كيف يتذكر العالم احتلاله، وكيف تنظر شعوب العالم لأفعاله كمُحتل، لهذا ستظل مهنة المراسل الحربي مهمة لنقل الحقائق، وستظل أيضاً على قائمة الاغتيالات لكل دولة تعرف أنها تنتهك القوانين الدولية.

# صحافة # حرب

هاشم صفي الدين: القائد المنتظر الذي يخشى حزب الله غيابه
«حيفا»: قنبلة موقوتة تحتضنها إسرائيل
«هزيمة الآلة»: إعادة تقييم دور الفرد في حرب غزة

مجتمع